هل أصبحت الديمقراطية كابوسا؟
2010-12-11
موقع"جبهةالتحريرالعربية
قتل الإنسان ما أكفره, فهو لا يستقر علي حال, ولا يطمئن إلي خيار, ولا يسكن إلي حلم, وهو يضيق بواقعه, ويتمني تغييره, فما يكاد يفلت من أسره, ويحقق ما تمناه, حتي يحن إلي الماضي الذي ضاق به, ويتمني العودة إليه.. لذلك قال الشاعر القديم.. وما سمي الإنسان إلا لنسيه.. ولا القلب إلا أنه يتقلب.
كان ذلك بعض ما قلته لصديق, لاحظ أن بعض النخب العربية التي ظلت تحكم ـ علي امتداد سنوات طويلة ـ بتحديث نظم الحكم العربية لتصبح نظما ديمقراطية تحكمها دساتير حديثة, تقوم علي قاعدة الأم مصدر السلطات تضمن حرية الرأي والتعبير والصحافة والنشر, وحقوق التنظيم والانتخاب والترشيح والتظاهر السلمي, وما كاد جانب من هذه الأحلام يتحقق لها أو لغيرها, حتي ضاقت به, وعادت تحلم بالماضي السعيد, الذي لم تكن تعكره ديمقراطية أو تفسده حرية.
شييء من ذلك حدث في مصر علي مشارف ثورة23 يوليو1952, فبعد ما يقرب من ثلاثين عاما من تحقيق حلم المصريين بإقامة حكم دستوري وطني, يقوم علي التعددية الحزبية والحريات الديمقراطية, بدأ الناس يشعرون بأن الحلم قد تحول إلي كابوس, واقترن الحكم الديمقراطي في وجدانهم بظاهرة عدم استقرار الحكم, وتعطل إنجاز المشروعات التنموية, وكان ذلك هو السبب الرئيسي في أن المصريين قد رحبوا بثورة23 يوليو, وأيدوا الإجراءات التي اتخذتها ضد كل الهياكل الديمقراطية, ومنها قرارات إلغاء الدستور وحل الأحزاب وتقييد حرية الصحافة, وأحبط ذلك التيار الذي كان يطالب ـ د اخل مجلس قيادة الثورة ـ بعودة الجيش إلي ثكناته وتسليم الحكم إلي المدنيين, وإقامة حياة ديمقراطية سليمة, فلم يستطع أن يقاوم التيار الآخر في مجلس القيادة, الذي كان يري أن المصريين لم يستفيدوا شيئا من أعوام الديمقراطية الثلاثين, وأن البلاد المتخلفة اقتصاديا واجتماعيا كمصر, في حاجة إلي نظام ديكتاتوري, يقوده مستبد مستنير يستطيع أن يقفز بها فجوة التخلف, ويحقق لها مستوي من النمو الاقتصادي, يدعم الاستقلال الوطني, ويضمن للطبقات الشعبية حدا أدني من مستوي المعيشة.
وبذلك حسم الشعب, الذي كان قد سأم النظام الديمقراطي, الصراع داخل مجلس قيادة الثورة, لصالح خيار المستبد العادل, فلم يجد الذين دافعوا عن الديمقراطية من أعضاء المجلس, مفرا من الاستقالة.
وبعد عشر سنوات من ذلك التاريخ, حظي فيها خيار يوليو الديمقراطي ـ أو غير الديمقراطي ـ بتأييد شعبي كاسح, لكل ـ أو معظم ـ ما اتخذه المستبد العادل من إجراءات, وانضموا إلي كل ما أقامه من تنظيمات غير حزبية, واحتشدوا بمئات الآلاف في مواكب التأييد والمساندة, بدأ الناس يضيقون بهذه الصيغة من الحكم, ويحنون إلي الزمن الذي كانت فيه مصر تتمتع بحكم دستوري يقوم علي تعدد السلطات وتعدد الأحزاب, يتيح لهم حرية التعبير عن آرائهم, وممارسة حقوقهم في التنظيم والتظاهر السلمي باعتبارهم الأمة التي هي مصدر السلطات.
وهكذا عادت مصر مرة أخري ـ منذ عام1976 ـ وبشكل تدريجي وإن كان إيقاعه بطيئا, إلي صيغة ديمقراطية تشبه الصيغة التي كانت قائمة في العصر الملكي الديمقراطي, فأخذت بشكل من أشكال التعددية الحزبية, واتسعت مساحة الحريات الديمقراطية, وخصوصا خلال الأعوام الخمسة الأخيرة, التي عاد المصريون خلالها, ليمارسوا بعض الحقوق الديمقراطية التي طال شوقهم إليها منذ أن توقفوا عن ممارستها منذ عام1952, كالتظاهر السلمي والإضراب والوقفات الاحتجاجية.
وبعد أكثر من ثلاثين سنة علي العودة إلي صيغة ديمقراطية تشبه ما كان قائما قبل ثورة1952, عاد حلم يوليو الديمقراطي, ليعابث أقساما من الجماهير ومن النخبة السياسية تكثف لديها الإحساس بأن المرحلة الديمقراطية التي بدأت في السبعينيات لم تحقق الآمال التي يعقدونها عليها, وأنها تحولت ـ كديقمراطية ما قبل يوليو ـ إلي كابوس أو ما يشبه الكابوس, لأسباب متناقضة, يختلفون في تحديدها من بينها أنها تسير بإيقاع سلحفائي, وتتقدم خطوة إلي الأمام, لتعود خطوتين للخلف, وفي معظم الأحوال تسير بطريقة محلك سر ومن بينها أن الجماهير الشعبية, لم تستفد شيئا من هذه الديمقراطية, لأن معظم ثمارها قد وقع في يد الفئات التي استفادت من سياسة الانفتاح الاقتصادي, بل ربما تكون ـ علي العكس مما كان يتوقعه أصحاب هذا الرأي ـ قد أدت إلي مزيد من التدهور في مستوي معيشة الطبقات الشعبية.
وربما كان أحد أسباب المشكلة, هو أن كثيرين يسقطون علي الديمقراطية, كل أحلامهم, بعالم مثالي ترفرف عليه رايات الحرية والرفاهية والعدل, ويتوهمون أن الديمقراطية, هي الحل الوحيد لكل مشاكل البشرية, كما أن كثيرين منهم ومن غيرهم, يتصورون أن تحقيق الحلم الديمقراطي بالمعايير الدولية التي استقرت في الغرب أمر بسيط وسهل, ولا يتطلب سوي إرادة سياسية لدي الذين يحكمون, ومع التسليم بأهمية توافر هذه الإرادة, فإنها لا تكفي وحدها لتحقيق الحلم, بل إن عدم توافرها ـ بالقدر الكافي ـ هو جزء من مظاهرة معقدة, تتعلق بطبيعة التطور الحضاري في الدول التي كانت تعرف إلي وقت قريب بـ دول العالم الثالث أو الدول النامية, الذي تعثر بسبب فجوة التقدم بينها وبين الدول التي سبقتها بقرون إلي الثورة الصناعية, وإلي الفكر الديمقراطي الذي أقام الدولة الحديثة, وخضوع معظمها للاستعمار, مما أدي إلي تقدم مشروع التحرر والاستقلال عن المشروع الديمقراطي, وهو ما يفرض علي الذين يشتاقون إلي الحلم الديمقراطي, أن يتذكروا أن الدول التي حققته, قد احتاجت إلي ما بين ثلاثة وأربعة قرون.
وربما لا يحتاج تحقيق الحلم في مصر والبلاد العربية والدول النامية, إلي نفس المدة, ولكنه يتطلب صبرا ومثابرة وإصرارا ممن يتبنون هذا الحلم, لتعديل البيئة الاجتماعية والسياسية التي تمارس فيها الديمقراطية, والعمل علي نفي تأثير العوامل غير السياسية التي تؤثر علي ممارستها, كالعوامل القبلية والجهوية والدينية, ونقص الوعي السياسي لدي الناخبين, وإطلاق حرية تشكيل الأحزاب والفصل بين ما هو ديني وسياسي واستغلال المال السياسي... إلخ, وأن يتذكروا أن آليات الديمقراطية في مقدمتها الانتخابات العامة ليست حلا سحريا لكل مشاكل البشر, وأنها لا تخلو من عيوب ومثالب ولكنها الوسيلة الوحيدة الأقل ضررا التي توصل إليها البشر حتي الآن, لكي يشارك الناس في حكم أنفسهم بأنفسهم.
والطريق الذي طوله ألف ميل, يبدأ بخطوة واحدة صحيحة.