في ذكر العشق ومن بلي به والإفتخار بالعفاف وأخبار من مات بالعشق وما في معنى ذلك وفيه فصول(الحلقة الثانية)
وعن محمد بن يحيى المدني قال سمعت بعض المدنيين يقول كان الرجل إذا أحب الفتاة يطوف حول دارها حولا يفرح أن يرى من يراها فان ظفر منها بمجلس تشاكيا وتناشدا الأشعار واليوم هو يشير إليها وتشير إليه ويعدها وتعده فإن التقيا لم يتشاكيا حبا ولم يتناشدا شعرا بل يقوم إليها ويجلس بين شعستيها كأنه أشهد على نكاحها أبا هريرة وقال الأصمعي قلت لأعرابية ما تعدون ا0لعشق فيكم ؟ قالت الضمة والغمزة والقبلة ثم أنشأت تقول
( ما الحب إلا قبلة ... وغمز كف وعضد )
( ما الحب إلا هكذا ... إن نكح الحب فسد ) ثم قالت كيف تعدون أنتم العشق ؟ قلت نمسك بقرنيها ونفرق بين رجليها قالت لست بعاشق أنت طالب ولد ثم أنشأت تقول
( قد فسد العشق وهان الهوى ... وصار من يعشق مستعجلا )
( يريد أن ينكح أحبابه ... من قبل أن يشهد أو ينحلا ) وقيل لرجل وقد زفت عشيقته على ابن عم لها أيسرك أن تظفر بها الليلة ؟ قال نعم والذي أمتعني بحبها وأشقاني بطلبها قيل فما كنت صانعا بها قال كنت أطيع الحب في لثمها وأعصي الشيطان في إثمها ولا أفسد عشق عشرين سنة بما يبقى ذميم عاره وينشر قبيح أخباره إني إذن للئيم لم يلدني كريم
ومر سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه في ليلة في بعض سكك المدينة فسمع امرأة تقول
( ألا طال هذا الليل وازور جانبه ... وليس إلى جنبي خليل الأعبة )
( فوالله لولا الله تخشى عواقبه ... لحرك من هذا السرير جوانبه )
( مخافة ربي والحياء يعفني ... وإكرام بعلي أن تنال مراتبه ) قال فسأل عمر رضي الله تعالى عنه عنها فقيل له إنها امرأة فلان وله في الغزاة ثمانية أشهر فأمر عمر رضي الله تعالى عنه أن لا يغيب الرجل عن امرأته أكثر من أربعة أشهر
ومن ذلك ما ذكره ابن الجوزي في كتاب تلقيح فهوم الأثر عن محمد بن عثمان بن أبي خيثمة السلمي عن أبيه عن جده قال بينما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يطوف ذات ليلة في سكك المدينة إذ سمع امرأة تقول
( هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج )
( إلى فتى ماجد الأعراق مقتبل ... سهل المحيا كريم غير ملجاج )
( تنميه أعراق صدق حين تنسبه ... أخي وفاء عن المكروب فراج )
عمر رضي الله تعالى عنه لا أرى معي بالمدينة رجلا تهتف به العواتق في خدورهن علي بنصر بن حجاج فلما أصبح أتني بنصر ين حجاج فإذا هو من أحسن الناس وجها وأحسنهم شعرا فقال عمر عزيمة من أمير المؤمنين لنأخذن من شعرك فأخذ من شعره فخرج من عنده وله وجنتان كأنهما شقتا قمر فقال له اعتم فاعتم فافتتن الناس بعينيه فقال له عمر والله لا تساكنني في بلدة أنا فيها فقال يا أمير المؤمنين ما ذنبي ؟ قال هو ما أقول لك ثم سيره إلى البصرة وخشيت المرأة التي سمع منها عمر ما سمع أن يبدر من عمر إليها شيء فدست إليه المرأة أبياتا وهي
( قل للإمام الذي تخشى بوادره ... مالي وللخمر أو نصر بن حجاج )
( لا تجعل الظن حقا أن تبينه ... إن السبيل سبيل الخائف الراجي )
( إن الهوى زم بالتقوى فتحبسه ... حتى يقر بإلجام وإسراج ) قال فبكى عمر رضي الله تعالى عنه وقال الحمد لله الذي زم الهوى بالتقوى قال وطال مكث نصر بن حجاج بالبصرة فخرجت أمه يوما بين الأذان والإقامة متعرضة لعمر فإذا هو قد خرج في إزار ورداء وبيده الدرة فقالت له
يا أمير المؤمنين والله لأقفن أنا وأنت بين يدي الله تعالى وليحاسبك الله أيبيتن عبد الله وعاصم إلى جنبيك وبيني وبين ابني الفيافي والأودية فقال لها إن ابني لم تهتف بهما العواتق في خدورهن ثم أرسل عمر إلى البصرة بريدا إلى عتبة بن غزوان فأقام أياما ثم نادى عتبة من أراد أن يكتب إلى أمير المؤمنين فليكتب فإن البريد خارج فكتب نصر بن حجاج بسم الله الرحمن الرحيم سلام عليك يا أمير المؤمنين أما بعد فاسمع مني هذه الأبيات
( لعمري لئن سيرتني أو حرمتني ... وما نلت من عرضي عليك حرام )
( فأصبحت منفيا على غير ريبة ... وقد كان لي بالمكتين مقام )
( لئن غنت الذلفاء يوما بمنية ... وبعض أماني النساء غرام )
( ظننت بي الظن الذي ليس بعده ... بقاء ومالي جرمة فألام )
( فيمنعني مما تقول تكرمي ... وآباء صدق سالفون كرام )
( ويمنعها مما تقول صلاتها ... وحال لها في قومها وصيام )
( فهاتان حالانا فهل أنت راجعي ... فقد جب مني كاهل وسنام ) قال فلما قرأ عمر رضي الله تعالى عنه هذه الأبيات قال أما ولي السلطان فلا وأقطعه دارا بالبصرة في سوقها فلما مات عمر ركب راحلته وتوجه نحو المدينة والله سبحانه وتعالى أعلم
الفصل الثالث من هذا الباب في ذكر من مات بالحب والعشق )
حدث أبو القاسم بن إسماعيل بن عبد الله المأمون قال حدثني أبي قال كنت بالمدينة قينة من أحسن الناس وجها وأكملهم عقلا وأكثرهم أدبا قد قرأت القرآن وروت الأشعار وتعلمت العربية فوقعت عند يزيد بن عبد الملك فأخذت بمجامع قلبه فقال لها ذات يوم ويحك أما لك قرابة أو أحد تحبين أن أضيفه وأسدي إليه معروفا ؟ قالت يا أمير المؤمنين أما قرابة فلا ولكن بالمدينة ثلاثة نفر كانوا أصدقاء لمولاي وأحب أن ينالهم خير مما صرت إليه فكتب إلى عامله بالمدينة في إحضارهم إليه وأن يدفع إلى كل واحد منهم عشرة آلاف درهم فلما وصلوا إلى باب يزيد استؤذن لهم في الدخول عليه فأذن لهم وأكرمهم غاية الإكرام وسألهم عن حوائجهم فأما اثنان منهم فذكرا حوائجهما فقضاها وأما الثالث فسأله عن حاجته فقال يا أمير المؤمنين ما لي حاجة قال ويحك أولست أقدر على حوائجك ؟ قال بلى يا أمير المؤمنين ولكن حاجتي ما أظنك تقضيها فقال ويحك فاسألني فإنك لا تسألني حاجة أقد عليها إلا قضيتها قال بلى فلي الأمان يا أمير المؤمنين ؟ قال نعم إن رأيت يا أمير المؤمنين
أن تأمر جاريتك فلانة التي أكرمتنا بسببها تغني ثلاثة أصوات أشرب عليها ثلاثة أرطال فافعل قال فتغير وجه يزيد ثم قام من مجلسه فدخل على الجارية فأعلمها فقالت وما عليك يا أمير المؤمنين فأمر بالفتى فأحضر وأمر بثلاثة كراسي من ذهب فنصبت فقعد يزيد على أحدها والجارية على الآخر والفتى على الثالث ثم دعا بصنوف الرياحين والطيب فوضعت ثم أمر بثلاثة أرطال فملئت ثم قال الفتى سل حاجتك قال تأمرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشعر
( لا أستطيع سلوا عن مودتها ... أو يصنع الحب بي فوق الذي صنعا )
( ادعو إلى هجرها قلبي فيسعدني ... حتى إذا قلت هذا صادق نزعا ) فأمرها فغنت وشرب يزيد وشرب الفتى وشربت الجارية ثم أمر بالأرطال فملئت وقال للفتى سل حاجتك فقال مرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشعر
( تخيرت من نعمان عود أراكه ... لهند ولكن من يبلغه هندا )
( ألا عرجابي بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا ) فأمرها فغنت وشرب يزيد وشرب الفتى وشربت الجارية ثم أمر بالأرطال فملئت وقال للفتى سل حاجتك فقال مرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشهر
م - ني الوصال ومنكم الهجر ... حتى يفرق بيننا الدهر )
( والله لا أسلوكمو أبدا ... ما لاح بدرا وبدا فجر ) فأمرها فغنت قال فلم تتم الأبيات حتى خر الفتى مغشيا عليه فقال يزيد للجارية قومي انظري ما حاله فقامت إليه فحركته فإذا هو ميت فقال لها يزيد ابكيه فقالت لا أبكيه يا أمير المؤمنين وأنت حي فقال لها ابكيه فوالله لو عاش ما انصرف إلا بك فبكت الجارية وبكى أمير
وأمر بالفتى فجهز ودفن وأما الجارية فلم تمكث بعده إلا أياما قلائل وماتت
وحكي عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قدم على عبد الملك بن مروان فجلس ذات ليلة يسامره
فتذاكر الغناء والجواري المغنيات والعشق فقال عبد الملك لعبد الله حدثني بأمر ما مر لك في هذه الأغاني وما رأيت من الجواري ؟ قال نعم يا أمير المؤمنين اشتريت جارية مولدة بعشرة آلاف درهم وكانت حاذقة مطبوعة فوصفت ليزيد بن معاوية فكتب إلي في شأنها فكتبت إليه والله لا تخرج مني ببيع ولا هبة فأمسك عني فكانت عندي على تلك الحالة لا أزداد فيها إلا حبا فبينما أنا ذات ليلة إذ أتتني عجوز من عجائزنا فذكرت لي أن بعض أعراب المدينة يحبها وتحبه ويراها وتراه وإنه يجيء كل ليلة متنكرا فيقف بالباب فيسمع غناءها ويبكي شغفا وحبا فراعيت ذلك الوقت الذي قالت عليه العجوز فإذا به قد أقبل مقنعا رأسه وقعد مستخفيا فلم أدع بها في تلك الليلة وجعلت أتأمل موضعها وموضعه فإذا بها تكلمه ويكلمها ولم أر بينهما إلا عتبا ولم يزالا كذلك حتى ابيض الصبح فدعوت بها وقلت لقيمة الجواري أصلحي فلانة بما يمكنك فأصلحتها وزينتها فلما جاءت بها قبضت على يديها وفتحت الباب وخرجت فجئت إلى الفتى فحركته فانتبه مذعورا فقلت لا بأس عليك ولا خوف هي هبة مني إليك فدهش الفتى ولم يجبني فدنوت إلى أذنه وقلت قد أظفرك الله تعالى ببغيتك فقم وانصرف بها إلى منزلك فلم يرد جوابا فحركته فإذا هو ميت فلم أر شيئا قط كان أعجب من أمره قال عبد الملك لقد حدثني بعجب فما صنعت الجارية قلت ماتت والله بعده بأيام بعد نحول عظيم وتعليل وماتت كمدا ووجدا على الغلام وقيل ان عبد الله بن عجلان الهندي رأى أثر كف عشيقته في ثوب زوجها فمات
وذكر محمد بن واسع الهيتي أن عبد الملك بن مروان بعث كتابا إلى الحجاج بن يوسف الثقفي يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عند عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف أما بعد إذا ورد عليك
كتابي هذا وقرأته فسير لي ثلاث جوار مولدات أبكارا يكون إليهن المنتهي في الجمال وأكتب لي بصفة كل جارية منهن ومبلغ ثمنها من المال فلما ورد الكتاب على الحجاج دعا بالنخاسين وأمرهم بما أمره به أمير المؤمنين وأمرهم أن يسيروا إلى أقصى البلاد حتى يقعوا بالغرض وأعطاهم المال وكتب لهم كتبا إلى كل الجهات فساروا يطلبون ما أراد أمير المؤمنين فلم يزالوا من بلد إلى بلد ومن إقليم إلى إقليم حتى وقعوا بالغرض ورجعوا إلى الحجاج بثلاث جوار مولدات ليس لهن مثيل قال وكان الحجاج فصيحا فجعل ينظر إلى كل واحدة منهن ومبلغ ثمنها فوجدهن لا يقام لهن بقيمة وأن ثمنهن ثمن واحدة منهن ثم كتب كتابا إلى عبد الملك بن مروان يقول فيه بعد الثناء الجميل ومبلغ ثمنها فوجدهن لا يقام لهن بقيمة وأن ثمنهن ثمن واحدة منهن وصلني كتاب أمير المؤمنين أمتعني الله تعالى ببقائه يذكر فيه أني أشتري له ثلاث جوار مولدات أبكارا وأن أكتب له صفة كل واحدة منهن وثمنها فأما الجارية الأولى أطال الله تعالى بقاء أمير المؤمنين فإنها جارية عيطاء السوالف عظيمة الروادف كحلاء العينين حمراء الوجنتين قد أنهدت نهداها والتفت فخذا ها كأنها ذهب شيب بفضة وهي كما قيل
( بيضاء فيها إذا استقبلتها دعج ... كأنها فضة قد شابها ذهب ) وثمنها يا أمير المؤمنين ثلاثون ألف درهم وأما الثانية فإنها جارية فائقة في الجمال معتدلة القدر والكمال تشفي السقيم بكلامها الرخيم وثمنها يا أمير المؤمنين ستون ألف درهم وأما الثالثة فإنها جارية فاترة الطرف